بعد أن استقر المقام برسول الله في المدينة المنورة وبدأها ببناء المسجد، ليوثق صلة العبد بربه، كان الأمر الثاني هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ليوثق صلة المؤمنين بعضهم ببعض، غير أن مسألة الأخوة تلك بدأت في مكة، حينما كان النبي يجالس أصحابه الكرام، فكان لا يفرق بين بلال الحبشي وأبي بكر العربي، وسليمان الفارسي، وصهيب الرومي، كانوا إخوانا متحابين، يؤثر أحدهم أخاه، ويحبه ويخبره بذلك الحب، في هذا الجو في مكة نشأ أصحاب الرسول على المحبة، حينما كان يخبرهم أن الله يقول - في الحديث الذي أخرجه ابن حبان: ( وجبت محبتي للمتحابين فيَّ )، هذه الأخوة لم تفرق بين جنس أو لون أو لغة، مادامت العقيدة واحدة، ومادام الرباط الذي يربطهم هو رباط الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات 10، ولما انتقل إلى المدينة كان المهاجرون قد تركوا أموالهم وديارهم، آخى النبي بين المهاجرين والأنصار، فكان كل مهاجر له أخ من أهل المدينة، كما آخى كذلك بين قبيلتي الأوس والخزرج المتحاربتين، هذا المجتمع القريب من المثالية كان واقعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحول فيه أولئك القساة الغلاظ، إلى أرقاء رحماء بينهم.
يقول الشيخ كمال درويش – إمام وخطيب بالكويت – إن هذه الأخوة والمحبة زكاها الإسلام، حين بيّن أن للأخ على أخيه حقوق؛ إذا لقيه أن يسلم عليه، وأن يدعو له بظهر الغيب، وإذا مرض فعليه أن يعوده، وإذا مات يشيعه، حتى إنه إذا عطس فينبغي على أخيه أن يشمته، وقد امتنّ القرآن على هذا المجتمع المتآلف حين قال: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ) آل عمران103، ويؤكد فضيلة الشيخ أن أي مجتمع لا يقوم على الأخوة الصادقة والمحبة المخلصة هو مجتمع سوف تغلب عليه الأحقاد والضغائن وكل أمراض القلوب، إنها أخوة في الله تجاوزت أخوة الدم ، فكل من تربطك به رابطة العقيدة، يلزم أن تحبه، وأن تنصره، واعلم أن الله تعالى سيقوي هذه الرابطة لتنطلق في الجنة بعد نزع الغل والحسد من صدور الفائزين بالجنة (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ) الحجر 47، فالغل والحسد هي أمراض موجودة في القلوب، لكن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذنا عليها إلا إذا خرجت في صورة أفعال مسيئة، تتمنى زوال النعمة عن الآخرين، أو تعترض على مراد الله في توزيع أرزاقه بين العباد، فمن تدرب في الدنيا على الأخوة والإيثار ونبل الخلق مع إخوانه، فإنه يؤمل له أن يكون ممن نزع الله ما في صدورهم من غلٍّ يوم الجزاء الأعظم.
ويضيف الشيخ إننا أصبحنا الآن بعيدين عن النهج النبوي ، حيث الأخوة الحقة هي أن تنشأ بينك وبين المسلم علاقة قوية دون أن تكون بينكما رابطة من قرابة أو نسب أو لُحمة دم، فقط محبة في الله، وتعاون على نُصرة دين الله، أما اليوم فمعاني الأخوة عليها علامات استفهام كثيرة، تكاد صفات المحبة والإيثار تختفي بين المسلمين، واختلطت المفاهيم وتشوهت إلى الحد الذي أصبح مفهوم الإيثار نفسه يصطدم بصفة الطمع، فالإيثار كما يراه الشيخ درويش هو أن يكون في يدك شيء فتقدِّم أخاك المسلم، إذا كانت به حاجة لهذا الشيء فتؤثره على نفسك، لكن أيضا ينبغي أن يُقابل ذلك السلوك بنوع من النُبل والتعفف، حتى لا يكون الأمر طمعا فيما أيدي الناس.
من ناحية أخرى، فإن هذه الأخوة لها مقتضيات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعلمنا أن المسلم المحب ينبغي أن يتفقد إخوانه على الدوام، ويتحرى إذا ما غاب أحد ، أن يسأل عنه فربما يحتاج إلى العون والمساعدة، فالمؤاخاة يجب أن تمارس في مجتمعنا الإسلامي بشكلها الصحيح دون مصلحة أو غرض، فقد وصف الله في سورة الحشر ثلاثة مجتمعات؛ مجتمع المهاجرين، ومجتمع الأنصار، ثم وصف التابعين الذين جاءوا من بعدهم، قال عن المهاجرين: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) ثم مدح مجتمع الأنصار أهل المدينة في الآية التالية (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)، ثم ذكر مجتمعات التابعين لفيما بعد : (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10)، هذه الحالة لم تكن مثاليات حالمة، وإنما كانت واقعا على الأرض في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام .